حسب الكثير من الدراسات، يختبر المبصرون والمكفوفون الظواهر البشرية بشكل مختلف، لكنهم يشتركون في فهمها. فكيف يدرك المكفوفون الظواهر المختلفة كالألوان مثلاً؟! وكيف يختلف إدراك المبصرين للألوان عن إدراك المكفوفين؟
يقول البروفسيور “ألفونسو كارامازا” أن الإجابة معقدة، هناك أوجه تشابه وهناك أوجه اختلاف مهمة أيضاً. نشرت مجلة Nature Communications مؤخراً ورقة بحثية تصف دراسة جديد تم إجراؤها مؤخراً في “جامعة بكين لإعداد المدرسين”. تقول الدراسة أنه على الرغم من اختبار المكفوفين والمبصرين للألوان بشكل مختلف، إلا أنهم يملكون “فهم مُشترك” للظواهر البصرية المجردة مثل “قوس قزح” و الألوان المختلفة.
كيف يقوم المكفوفون بتمثيل الأشياء غير المادية؟
السؤال الأهم هنا هو كيف نمثل الأشياء التي ليس لها واقع مادي (أشياء لا يمكننا لمسها أو شمها)؟.
يقول كارامازا”: “في الواقع، إنها ليست مشكلة المكفوفين فقط، فقد يواجه أي شخص مبصر هذه المشكلة عندما يسمع كلمات مثل “أيون” أو “كوارك”. لا يملك معظمنا فهم كافٍ لماهية هذه الأشياء في الواقع. لكن إذا سألت علماء فيزيائيين، فيمكنهم إعطاؤك أوصافاً نظرية ودقيقة رياضياً، لكنك لن تجد تطابق فيزيائي ملموس بين الأشياء التي يربطونها بهذه الكلمات”.
ويكمل “كارامازا” قوله: “يمكنك استخدام اللغة لوصف الأشياء المادية. فيمكن لشخص أعمى أن يصف فنجاناً كجسم صلب مقعر وغير مساميّ، لذا يمكنك وضع السوائل فيه. إن هذه الأوصاف هي أشياء لديك بعض الخبرة الفيزيائية عنها، لذا يمكنك الاستفادة من تلك التجربة. لكن هذا الأمر لا ينطبق على بعض المفاهيم الأخرى. فاللون مثلاً هو خاصية فيزيائية، ولكن لا توجد طريقة لإخبار الشخص الكفيف عن تلك التجربة الحسية، لأنها تجربة بصرية بحتة. لذا، فإن الطريقة التي يتعلمون بها عن اللون الأحمر هي الطريقة التي نتعلم بها عن مفاهيم كالعدالة والفضيلة، أي من خلال الوصف اللفظي أو استخدامها في السياقات اللفظية“.
على الرغم من معرفة العلماء منذ عقود حقيقة أن المفاهيم المجردة والملموسة يتم تمثيلها في أجزاء مختلفة من الدماغ، إلا أن “كارامازا” يقول أن معرفة كيفية فهم المكفوفين للمفاهيم المرئية كاللون يمكن أن يساعد في إلقاء ضوء جديد على طريقة تنظيم الدماغ.
تقترح إحدى الفرضيات الخاصة بتنظيم المعرفة في الدماغ أن تمثيلات الأشياء التي نعرفها مرتبطة بشكل مثالي بأجزاء أخرى من الدماغ. وهذه الأجزاء ضرورية لمعالجة تلك المعلومات.
كيف يتم تنظيم مفاهيم الألوان في دماغ الإنسان الكفيف؟
قال “كارامازا”: “سيتم تنظيم معرفة شيء مرئي في جزء من عقلي مرتبط بالنظام البصري. لكن ماذا عن الألوان عند المكفوفين؟ لا يمكن تمثيلها في منطقة مرتبطة بالمعالجة المرئية. نظراً لأنهم يتعلمون عنها من خلال اللغة، فسيتم تنظيمها في منطقة مرتبطة جيداً بمعالجة اللغة بشكل خاص. لذلك إذا كان السؤال هو أين يخزن الشخص الكفيف تمثيل قوس قزح في دماغه، فإنه يخزنه في نفس المنطقة التي يخزن بها الشخص المبصر تمثيلاً لمفاهيم مثل العدالة أو الفضيلة“.
كيف اختبر العلماء هذه الفرضية؟
لتنفيذ هذه العملية، قام “كارامازا” وزملاؤه بتجنيد متطوعين مكفوفين ومبصرين. كما استخدموا أجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي لتتبع النشاط في أدمغتهم أثناء قيامهم بمهام مختلفة. تشمل تلك المهام الإجابة على أسئلة حول أقواس قزح والألوان.
قال “كارامازا”: “وجدنا أنه عند المكفوفين الخلقيين، حدثت الاستجابات العصبية للون الأحمر في نفس المناطق الخاصة بالاستجابة العصبية للعدالة. كما أن الحالة المجردة للون الأحمر عند المكفوفين مطابقة للحالة المجردة للفضيلة عند المبصرين.
في كلتا الحالتين يتم تمثيل المعلومات في جزء من الدماغ حيث يتم الحصول على المعلومات من خلال العمليات اللغوية“. وبينما تشير نتائج الدراسة إلى وجود أوجه تشابه بين كيفية تفسير المكفوفين والمبصرين لمفاهيم مثل اللون، يؤكد “كارامازا” أن الإجابة لا تزال بعيدة عن كونها إجابة نهائية.
وقال أيضاً: “إن ما نحاول إثباته هو أن تنظيم المفاهيم في الدماغ يتم تحديده من خلال مبادئ مختلفة. وأحد هذه المبادئ هو كيفية الحصول على المعلومات. ولكن مسألة ما إذا كان المكفوفين والمبصرين لديهم بالفعل مفاهيم مختلفة عن اللون الأحمر، هذه هي المشكلة الصعبة. أنه سؤال فلسفي في هذه المرحلة، كما أنه ليس أمراً نعرف كيفية معالجته علمياً، لأننا نتحدث عن تجربة شخصية وخاصة“.
قال “كارامازا” أن الأمر اللافت للنظر هو أنه على الرغم من تلك الاختلافات في كيفية تمثيل المكفوفين للألوان بشكل مختلف في دماغهم، يستطيع المكفوفون والمبصرون فهم اللون بطرق متشابهة. فإن تحدثت مع شخص كفيف ولم تكن تعلم أنه كفيف، فلن تشك أبداً في أن تجربته مع اللون الأحمر تختلف عن تجربتك، لأنه يعرف في الواقع معنى اللون الأحمر. إنه يعرف ما يعنيه هذا اللون بنفس الطريقة التي تعرف بها أنت ما تعنيه العدالة”.
تم دعم هذا البحث بتمويل من المؤسسة الوطنية للعلوم الطبيعية في الصين، وصندوق جامعة Harvard لما بعد الدكتوراه، وبرنامج Horizon 2020 للأبحاث والابتكار والتابع للاتحاد الأوروبي، وصناديق البحوث متعددة التخصصات في جامعة بكين لإعداد المعلمين.